الخوف من المستقبل مرض العصر ( العالم الإسلامي نموذجا )
الشيخ/عبد الرحمن بشير
…………………………………………………………………………………
إن محاولة فهم المستقبل تعتبر مسألة معقدة ، وليس من السهولة معرفة ما يقع فى المستقبل ، ذلك لأنه مرتبط بعدة أمور متداخلة ومتشابكة ، ولهذا لا يمكن للمستقبل معرفته بالسهولة ، ومع هذا يوجد فى العالم اليوم مراكز ضخمة تهتم بمعرفة المستقبل ، وتدرس السيناريوهات المختلفة من زوايا مختلفة ، وتنجح فى كثير من الأحيان فتح الألغاز ، وتفشل أحيانا أخرى ، ولكن كل ذلك لا يخرج من إطار الدراسات المستقبلية .
فى الغرب اليوم لديه إستقرار سياسي ، وإجتماعي ، ولهذا تكون الدراسات المستقبلية ممكنة جدا ، وتفيد كثيرا ، ولكن كيف يمكن للدول التى تشبه بالعصابات فى العالم الثالث معرفة المستقبل ؟ هل من الممكن التنبؤ بالمستقبل فى بلد كاليمن ، أو كالصومال ؟ وكيف يمكن للنخب معرفة المستقبل ، وقد أصبح كل شيء فى هذه البلاد قابلا للخراب ؟
فى آية من سورة النحل ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتى رزقها رغدا من كل مكان ، فكفرت بأنعم الله ، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون . الآية ١١٢) ، فى هذه الآية مسألة غاية فى الأهمية ، وتعطى معيارًا من المعايير الدقيقة فى فهم الواقع ، والمستقبل ، والسبب هو أن المستقبل نتيجة الواقع ، كما أن الواقع كان نتيجة المستقبل ، فلا يمكن معرفة المستقبل بدون أدوات تشخص لنا الواقع كما هو ، ولهذا نحاول معرفة المستقبل من خلال تلك الأدوات التوصيفية ، ومن ثم نحاول إستخدام بعض الأدوات التحليلية لمعرفة المستقبل .
فى السورة قراءة لمظاهر القرية ( التجمع البشري ) ، فالقرية فى المفهوم القرآني لا يعنى فقط التجمع البشري الذى هو دون المدينة ، وفوق الحياة البدوية ، ولكن القرية قرآنيا مفهوم عام لكل تجمع بشري ، له رؤية سياسية ، وقيادة ونخب ، وقواعد تحتية ، وأبنية مادية ومعنوية ، ولهذا نجد دوما ذلك المفهوم يأتى فى سياقات مختلفة ، القرية الإيجابية ذات البقاء والإستمرار ، والقرية السلبية التى لا تقاوم التحديات .
هنا ، فى السورة حديث عن الواقع الإجتماعي الإيجابي ، والذى يؤدَّى إلى الإستقرار السياسي ( الدولة القابلة للعيش ) وهذه الدولة لها مواصفات ثلاثة وفق هذه الآية ( الأمن الشامل + الإستقرار السياسي + الوفرة المالية ) ، ولتأكيد ذلك تقرر الآية ( آمنة مطمئنة يأتى رزقها رغدا من كل مكان ) .
فى القراءة العلمية للآية نجد أن الأمن الشامل ، وهو الأمن الذى يشمل الغذاء والسكن والدواء والنفس والعائلة ، وهو ما تم الإصطلاح عليه فى الدراسات الحديثة ( الأمن الإيجابي ) ، والأمن ليس فقط هو غياب الخوف ، فالخوف مظهر لغياب الأمن ، كما أنّ للأمن مفهوما شاملا ، فكذلك للخوف مفهوم شامل ، فهناك الخوف من الفقر ، والعوز ، والخوف من المرض ، بل والخوف من تهديد الدولة ، وظلم الآخر .
ليس من العبث ربط الخوف والجوع معا فى بعض الآيات ( فليعبدوا ربّ هذا البيت الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) ، كما أنه ليس من العبث كذلك الربط فى النص النبوي ما بين الصحة كمفهوم عام ، والأمن الغذائي ، وغياب الخوف بكل تجلياته فى الحديث ( من كان آمنا فى سربه ، معافى فى جسده ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ) .
يقدم الفكر الإسلامي مشروعا متكاملا فى السعادة والنجاح ( أربع من سعادة المرء ، الجار الصالح ، والمركب الهنيئ ، والمسكن الواسع ، والمرأة الصالحة ) ، وتجد فى بعض الروايات ( الجار الصالح ، والمركب الهنيئ ، والمسكن الصالح ) .
هنا نجد شيئا مهمّا تناولته الآية بعمق ( يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ) ، فالوفرة المالية تحتاج إلى أرضية حقيقية تصنع الوفرة ، وتجعلها فى متناول الجميع ، فلا وجود فى المجتمع الناجح من يموت فقرا ، ومن يموت غنى ، ولهذا نجد الدول الناجحة تخطط فى هذا المجال فى بناء البيئة الصالحة للسكن ، والقابلة للعيش الكريم ( الجار الصالح ، والسكن الصالح ) وفى رواية ( السكن الواسع ) ، ولَم ينجح من العالم الإسلامي فى هذا المجال إلا دول قليلة ، منها قطر حيث أصبحت الدولة الثانية والعشرين فى هذا المجال ، والإمارات العربية المتحدة التى صُنّفت الدولة الثالثة والعشرين عالميا ، وبدأت تركيا اليوم تسجل تقدما ملحوظا فى هذا المجال .
إن بناء السكن الصالح للعيش فيه له معايير دقيقة ، وليس فقط ان يكون محلا للعيش فيه ، كما أن البيئة أيضا لها معايير دقيقة ، وإختيار البيئة الصالحة للسكن لها معايير أكثر دقة ، فإن البيوت الطاردة ، والبيئة الفاسدة وراء الإنحرافات الفكرية والسلوكية للشباب والفتيات ، ومن هنا راينا شمولية الطرح الإسلامي ( للعيش الآمن ) ، وهذا مفهوم جديد ، ولكنه ليس جديدا على الفكر الإسلامي .
إن العيش الآمن يتطلب وجود كل ذلك ، فلا حياة صحية بدون سكن آمن ، ولا وجود للسكن الآمن بدون بيئة آمنة ، ولا يمكن بناء البيئة الآمنة بغياب التخطيط ، فلا يمكن التخطيط الناجح للحياة السعيدة بدون سياسات سكنية شاملة ، وكل ذلك يتطلب إستقرارا سياسيا ، والإستقرار السياسي يحتاج إلى أمن شامل ، والأمن الشامل يتطلب من المواطنين ، ساكنى القرية صناعة ( العقد الإجتماعي ) .
تقدم الآية فى أسلوب غير عادي التهديد الأساسي للإستقرار ( فكفرت بأنعم الله عليها ) ، والكفر هنا ليس كفر دين ، أو كفرا يؤدى من الخروج عن الملة ، وإنما هو كفر نعمة ، وهذا يعنى أن الدولة فشلت فى الإستفادة من النعم الربانية ، ولكن العجيب هو أن المفردة وُضعت فى وسط الآية ( فكفرت بأنعم الله ) ، ولهذا وجدنا أن الآية قررت بعدها كيف يكون مستقبل القرية ( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ) ، وهو ما يسمى اليوم بالدولة الفاشلة ، ذلك لأن المجتمع فشل فى بناء الدولة ذات العيش المستمر ، ومن هنا سقطت الدولة فى الفشل ( لباس الجوع والخوف ) ، والقرآن يعيد ذلك إلى صنع البشر ( بما كانوا يصنعون ) .
إن بناء الدولة الناجحة تبدأ من تأسيس الفكر السياسي ، وتأسيس الفكر السياسي يبدأ من التفاهم ما بين المختلفين فى المجتمع ، فلا نجاح لدولة فوقية ، هكذا يقول التاريخ سابقا ، ولاحقا ، فالتجربة النبوية تأسست على التفاهم فى بناء المجتمع المدني ما بين الرسول عليه الصلاة والسلام وأهل يثرِب ، وكذلك التجربة الأمريكية فى بناء الدولة الحديثة خرجت من تفاهمات عميقة ، ولهذا بقيت التحربة طويلة ، بينما التجارب فى العالم العربي والأفريقي والإسلامي تكرر الفشل .
ما زال الخوف من المستقبل سيد الموقف فى العالم الإسلامي ، وما زالت الدولة فى العالم الإسلامي تخرج من طور الأمن السطحي ( الأمن الناقص ) ، وتقع فى طور الخوف بشكل مستمر ، فحالة الصوملة عُمّمت ، فهناك ظاهرة اللبننة ، والسّودنة ، والمصرنة ، والعرقنة ، واليمننة ، والقائمة مفتوحة لأجل اللحوق بها فى العالم العربي والإسلامي .
منذ عام ٢٠٠٥م تتصدر الدول الإسكندنافية ، وكندا ، وإيرلندا ، وأيسلندا ، وهولندا ، فى أهم الدول للشفافية ، والسعادة ، والتنمية معا ، ولا تنافسها فى هذا المجال حتى الدول الكبرى كأمريكا وفرنسا غيرها ، بينما تتنافس دول العالم العربي فى أخذ مقاعدها من الدول الفاشلة ، أو القريبة من الفشل ، أو المتوقعة للفشل .
لقد أصبحت اليابان قوة عظمى بلا مقدرات مادية ، وأصبحت السعودية دولة ضعيفة قريبة من الفشل ، وهي تملك مقومات مادية كبيرة ، والسّبب هو أن الإنسان فى اليابان خرج من طور الإنفعال إلى الفاعلية ، بينما هنا فى العالم الإسلامي ما زال فى طور الوصاية ، فهو ما زال طفلا يحتاج إلى رعاية ، ولهذا يوصف الحاكم الراعي ، وولي أمر الناس ، بينما هو عند الدولة اليابانية خادما وموظفا عاما .
لا خوف من مستقبل اليابان وأيسلندا ، ولكن الخوف كل الخوف من مستقبل السعودية ومصر ، ذلك لأن اليابان وأيسلندا عرفتا نعمة الله عليهما ، فلا يوجد فيهما محتاج وفقير ، كل واحد من الناس يملك الكفاية وما فوق الكفاية ، ولكن الإنسان فى السعودية ومصر لا يعرف ماذا يخبّئ له المستقبل من مفاجآت ؟
المشكلة فى قوله تعالى ( فكفرت بأنعم الله ) ، ولكن هل من نخب سياسية يتجاوزون القراءات المغلوطة للحياة ، والقراءات المشوهة ، والمشوشة للنصوص ؟ هل ثمة مراجعات لتاريخ الدولة ( دولة ما بعد الإستعمار ) لإيجاد دولة ما بعد دولة الإستعمار ؟ هنا يكمن مستقبل الدولة فى العالم الإسلامي .
تعليقات