حكمة من التاريخ
بقلم الشيخ عبد الرحمن بشير
………………………………………………………
الرجال نوعان :
١- رجل يستمد رجولته من ذاته ( iskii u nin ) .
٢- رجل يستمد رجولته من غيره (nin ku nin ) .
هكذا قال الصوماليون فى مثل قديم ، وهذا مستوحاة من تجارب الحياة ، ولهذا تجد اليوم فى صخب الحياة من هو قوي فى لحظة ، ولكنه ينهار فى لحظة أخرى ، والسبب هو ان الرجولة ليست ذاتية ، فهي مستمدة من غيرها ، ويحتاج دوما إلى ركن شديد من خارج ذاته .
فى تأملاتى للحياة ، رأيت أن الرجال أنواع ، وليسوا نوعين ، ومن هنا أحببت أن أبرز هذه الأنواع من الرجال :
أولا : الرجل الذى يثق فى ذاته ، فهو يستمد رجولته من الذات لا من الخارج ، وهذا النوع من الرجال قليل ، ولكنهم هم الذين يمتازون عن غيرهم بالقوة والحكمة .
ثانيا : الرجل الذى يستمد قوته من الخارج ، وهذا النوع خطير ، ولكنه ليس نسخة واحدة ، فهم نسخ عدة :
١- هناك رجل يشعر رجولته حين يملك مالا ، فإذا فقد المال إنهار كليا ، وسقط من العلوّ الذى كان يشعر فيه الأمن النفسي والإجتماعي .
٢- هناك رجل آخر يشعر رجولته حين يكون فى منصب هام ، فإذا فقد ذلك المنصب تحوّل إلى لا شيئ ، لأنه فقد رجولته المستمدة من الخارج .
٣- لدينا رجل ثالث يستمد رجولته من الحضن الدافئ ، فهو رجل بزوجته ، أو شريك حياته فإذا فقد ذلك ، فقد مقومات الرجولة ، ومكامن القوة ، حينها يتحول من الرجولة إلى شيئ آخر .
٤- فى الحياة رجل يستمد رجولته من المحيط ، فهو رجل حين يعيش بين أهله ، فإذا تحوّل من البيئة الحاضنة له ، يصبح كالطفل اليتيم ، ويبحث عن حاضن جديد .
الرجولة حالة ، وليس نوعا من البشر ، فليست الرجولة عندنا الذكورة ، فالذكورة آلة ، وليست حالة ، ولهذا عندنا سيدات من الرجال ، وسادة ليسوا من الرجال ، فلا يفهمنّ أحد غير ما نريد ، لأننى عرفت فى التاريخ سيدات سجلن حضورا فى التاريخ ، منهن ، السيدة بلقيس رضي الله عنها التى قادت قومها إلى برّ الإيمان والسلم مع سيدنا سليمان عليه السلام ، وخديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، تلك المرأة التى لم نر لها مثيلا فى مواقفها البطولية ، وسمية أول شهيدة فى الإسلام ، والخنساء التى رفضت البكاء فى زمن التضحيات ، فالنساء حين يعرفن قوتهن ، يسجلن مواقف الرجال .
الرجولة معنى يتجدّد ، وقيمة تترسّخ ، فليست الرجولة فخرا بلا سبب ، وفحولة بلا حكمة ، بالرجولة تسجيل للمواقف فى اللحظات الصعبة ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ، قال يا قوم اتبعوا المرسلين ) ، هنا نجد موقفا صعبا ، ولكنه ليس موقف المترددين ، بل هو موقف يتطلب شجاعة ، وتسجيلا له فى الوقت المناسب .
فى الآية معنيان دقيقان ، المعنى الأول فى قوله تعالى ( وجاء رجل يسعى ) ، وهو معنى يفيد بأن حركة التاريخ تحتاج إلى رجال يسعون فى بناء الأمة عقديا وفكريا وعلميا ، والمعنى الثانى ( يا قوم اتبعوا المرسلين ) ، فالرجل الحقيقي يحمل رسالة وجودية ، فليس عبئا على الحياة ، بل هو سبب من أسباب النهضة والتنمية ، فهو يدعو إلى رسالته فى كل الأحوال ، فلا يتلوّن ، ولا يتغير ، ولا بتبدّل ، بل هو ثابت على المبادئ حتى الرمق الأخير .
الرجولة حركة ، وليس سكونا ، والرجولة عطاء ، وليس أخذا فقط ، ولهذا وجدنا فى آية من كتاب الله ( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ، أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله ) ، هكذا يتكلم الرجل الحقيقي فى الوقت المناسب ، يفاجئ الحضور بموقف صادم ، ولكنه خارج من القلب الزكي ، فلا يخرج من الآداب العامة ، ولا يكسِّر البروتوكولات بلا سبب ، ولكنه يقول الكلمة المناسبة فى الوقت المناسب ، فإذا تأخرت الكلمة فى الوقت المناسب ، فقد فاتها القطار .
فى المقطع القرآني فائدتان :
١- هناك خطة إيمانية تجعل الفرد المؤمن يعمل فى داخل النظام الفاسد تكتيكيا ، ولكنه ينتطر ليعلن وجهته الإيمانية فى الوقت المناسب ( الأمن الدعوي والرسالي ) ، ولهذا قال تعالى ( رجل من آل فرعون يكتم إيمانه ) ، فهو رجل بكل ما تعنى الكلمة من معنى ، ذلك لأنه يجل الموقف الإيماني فى تأمين الدعوة والرسالة .
٢- تحرك الرجل فى الوقت المناسب ، فهو من آل فرعون ، ولكنه من أتباع موسى عليه السلام ، فهو من رجال الدولة الفرعونية ، ولكنه من رجال التغيير فى الداخل ، فهو حافظ على هدوءه زمنا طويلا ، ولكنه لم يصبح من اللعبة ، بل بقي من جزءا من المشروع الإيماني والتغييري ، ومن هنا نجح فى الصدع بالقول المبين فى اللحظة المناسبة ( أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله ) .
هكذا يتكلم الرجل الصعب فى الزمن الصعب ، ذلك لأن تسجيل الموقف فى اللحظة الصعبة جهاد وكفاح ، والسكوت فى زمن الكلام ، حين تكون الكلمة جهادا ، يعتبر لعبة فى مسرحية غير هادفة ، وليس وعظا أن تعلم الناس فى زمن العبودية طاعة الأمراء ، كما أنه ليس من الحكمة أن تفتي للناس الخنوع فى زمن ظلمات الإستبداد .
الرجولة صدق مع الله ، ومع التاريخ ، ومع الذات ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فمنهم من قضى نحبه ، ومنهم من ينتظر ، وما بَدَّلُوا تبديلا ) ، ليس المؤمنون كلهم رجالا ، ولكن فى المؤمنين رجال ، ولهذا كان الحرف ( من ) للتبعيضيّة عند أغلب العلماء ، وقيل فى تفسيرها أنها نزلت فى أمثال مصعب بن عُمير رضي الله عنها ، ذلك الفتى الذى تحوّل من عالم الأشياء إلى عالم الحقائق فى زمن النبوة بسبب تربية النبي عليه الصلاة والسلام .
الرجولة تماسك أمام الإغراءات الدنيوية ، فى الحديث النبوي الذى تناول الأصناف السبعة الذى يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظلّه صنف عجيب ( ورجل دعته إمرأة ذات منصب وجمال ، فقال إنى أخاف الله رب العالمين ) .
هنا يظهر معدن الرجال ، معدن التماسك أمام زخرف الحياة الدينيوية ، ذلك لأن الحديث عن النظريات فى بعض الأحيان سهل ، ولكن التطبيق هو الصعب ، هنا لا وجود للوعظ ، والدروس النظرية ، هنا يتوقف الكلام ، ويظهر المعدن .
الرجال أصناف ، وأنواع ، ولكن الناس فى المظهر يتشابهون ، هناك مظهر واحد لجميع الناس ، ولكن الحقيقة فى الداخل ، فى العمق ، فى الحياة البعيدة عن السطح ، فلا يخدعنّ أحد بالمظاهر ، فهي دوما جوفاء .
قرأت لجارودى ، الفليسوف الفرنسي قبل الإسلام ، فرأيت فيه الرجولة ، وقرأت له بعد الإسلام ، فلاحظت فيه الرجولة ، لا تغيير فى المواقف المبدئية ، ولكنه غيّر البوصلة ، وقرأت سيرة أبى ذَر الغفاري رضي الله عنه قبل الإسلام ، وبعده ، فرأيت فيه الصدق والوضوح فى كل محطات حياته ، ذلك لأن الرجولة عنوان ، والعنوان الحقيقي لصاحب المنزلية والرجولة غير قابل للتغيير ، وعشت مع العظماء فى مذكراتهم ، فرأيت فيهم قاسما مشتركا ، وهو البطولة المستمدة من الرجولة .
ليس من العبث أن يكون حديث القرآن عن المؤمنين ملتحما بالرجولة دائما ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا ) ، ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) ، ( من المؤمنين رجال ) وهكذا أصبح عنوان أهل الإيمان بالرجولة .
تعليقات