الصين من القاع إلى القمة.. قصة صعود التنين

منذ أن بدأت الحضارة العلمية الحديثة انقسمت المجتمعات البشرية إلى (أمم متقدمة) و(أمم متخلفة) أو نامية ! فهناك دول أو شعوب سمت نفسها بأنها متقدمة كما سمي باقي الدول والشعوب الأخرى بأنهم ناميون ومتخلفون! ولذلك فإن هذه الدول المتقدمة تسيطر على الدول المتخلفة سيطرة أشد من سيطرة الاستعمار المباشر الذى كان معروفًا من قبل، فهم يسيطرون من خلال أدوات غير مباشرة  ومن خلال  الغزو الفكرى و الغزو الصناعي و الغزو الثقافي.
ولكن هناك امم استطاعت ان تقلب هذه المعادلة وتتحول من امة متخلفة الى امة متقدمة متجاوزة كل التحديات والمعوقات التي تختلقها لها تلك القوى المهيمنة، إن التطور والتجديد والنمو من سنن الحياة، فالزمن لا يتوقف وإنما يتقدم بشكل متصاعد، وسقف المعرفة الإنسانية في تطور رهيب مع تقدم الزمان،ومن يستدرك يصل فكما يقال من جد وجد ومن زرع حصد وهذا ما يمكن أن نستفيده من التجربة صعود الصين والتي خرجت من قائمة الدول النامية إلى قائمة الدول المتقدمة.
قبل أربعين عامًا كانت الصين دولة متخلفة تمامًا، لا تعتمد إلا على الزراعة أي أن النشاط الاقتصادي الهام فيها يقتصر فقط على الزراعة، و كانت تمر بمراحل صعبة جدا في بداية القرن العشرين حيث التدخل الأجنبي الغربي والغزو الياباني على أراضيها  وتعاني من فساد اداري واقتصادي ادى الى انهيار اقتصادها وتمرد سكانها ووقوع الثورة الشعبية عام  1911م  لإسقاط النظام الديكتاتوري وإعلان الجمهورية عام 1912م.
وحتى بعد إلغاء الديكتاتورية لم تكد البلاد تهدأ حتى اندلعت فيها الحرب الأهلية بين سكانها، فاستغلت اليابان الوضع وقامت بالاستيلاء على اراضيها ، وحتى بعد تخلص الصين من الحكم الياباني دخلت في حقبة أخرى من الصراع بين الحكومة وميليشيات الحزب الشيوعي حتى اصابتها مجاعة عامة كانت أعنف مجاعة تشهدها الصين ...الخ
ومنذ بداية ثمانينيات من القرن الماضي استيقظت الصين من ثباتها العميق لتؤدي دورها في الاقتصاد العالمي ،لذلك يمكن أن نقول بأن مشكلة التخلف اليوم ليست مسألة شعوب وإنما هي مسألة قيادات التي تسعى لحل المشكلة الاقتصادية والاجتماعية فيها،وليست هذه المشكلة مقتصرة فقط بالتوجيه النظري الاقتصادي والسياسي اشعب ما، بل هي توجيه نظري عميق بالتحديات التي تواجهها الشعوب في المستقبل وما المطلوب منها لتجاوزه،
فالحضارة ليست مظهرًا بقدر ما انه ثورة ، والتقدم لا يأتي من القوى الخارجية، بل لابد أن ينبع ويندلع من داخل شخصية الفرد و المجتمع حتى يكون لديه قوة دافعة إلى تقدمه ونموه  على مدى سنوات عديدة.
ولقد أتبعت الصين مجموعة من الاستراتيجيات التي تساعدها في النهوض وتقوية اقتصادها وتطورها واعتمدت الصين عدة سياسات واستراتيجيات التي تساهم في نموها  والذي ظهرت نتائجه في الوقت الحالي وهي :-
أولًا/ الاستفادة من عدد سكانها الكبير في عملية الإنتاج. 
فقد قامت الصين بمعادلة سكانية لم تخطر على بال باقي دول العالم، حيث إن كل دول العالم تحاول أن تنتج للاكتفاء الذاتي والفائض يكون للتصدير، أما الصين فقد وضعت نصب عينيها أن تنتج للعالم كله بما يشمل ذلك شعبها أيضًا، وهذا يعتبر حلًّا للغز القائل كيف تغلبت الصين على المشكلات الاقتصادية كالفقر والبطالة، فتعداد سكانها يكاد يقترب من المليار ونصف ولكن الصين تنظر إلى سكانها على أنهم مورد لها وليسوا عبئًا عليها.
ثانيًا/ وضع سياسات إقتصادية تدعم  اللامركزية التجارية.
انتقلت الصين من مركزية التجارة إلى اللامركزية التجارية وتحرير الأسعار، ومن النجاحات في المجال الزراعي أن الصين قامت بالاتفاق مع المزارعين أن يقوموا بتسليم الدولة كمية متفقً عليها من المنتجات ويتصرف المزارعون بحرية في الباقي، وقامت الدولة برفع أسعار المنتجات التي تشتريها من الفلاحين لتشجيعهم.
ثالثًا/ دعم الخصخصة والتخلص من الشركات المتعثرة.
قامت الصين بخصخصة المنشأت التابعة للقطاع العام، خصوصًا الصغيرة منها التي تحقق عجزًا والإبقاء على المنشآت الكبيرة، مما أدى إلى نجاح كبير في المنشآت الصغيرة، كما قامت بإغلاق المنشآت الأكثر عجزًا.
رابعًا/ دعم صعود القطاع الخاص وحمايته.
لقد أخذ وقتًا طويلًا للاعتراف به، ولكن تم الاعتراف به في النهاية، وأصبح القطاع الخاص مؤثرًا هامًا في الاقتصاد الصيني، حيث إنه ينتج نحو ثلثي الناتج المحلي الإجمالي.
خامسًا/ سياسة الانفتاح على العالم الخارجي وبناء علاقات اقتصادية بناءة مع الدول .
قامت الصين بجذب رؤوس الأموال الأجنبية، ولم تكتف بذلك فقط وإنما قامت بتوجيهها نحو قطاعات معينة ولم تترك للمستثمرين لهم الحرية الكاملة في التصرف وإنما وضعت شروط وامتيازات تخدم الدولة والمستمثمر معا 50/50، وهذا سر من أسرار النجاح الذي حققه الاقتصاد الصيني، فبعض الدول تقوم بجذب الاستثمارات الأجنبية إليها ولا تعرف الى أين ستذهب هذه الاستثمارات على الوجه العام، وإنما يجب على الدولة تحديد أوجه القصور عندها، وتقوم بتوجيه الاستثمارات الأجنبية إليها وليس فقط جذب الاستثمارات على الوجه العام.
سادسًا/ تحرير  السياسة التجارية
قامت الصين بحماية المنتجات المحلية والتشجيع على التصدير من خلال رفع التعريفة الجمركية على الواردات المثيلة للمنتجات الصينية، مما أدى إلى تحسن ميزان مدفوعاتها وحقق فائضًا بانتظام لأن صادراتها تفوق وارداتها، كما أن دخولها الجارية تفوق نفقاتها الجارية، وأما بالنسبة لسعر صرف اليوان فإن الصين تقوم بتثبيت قيمة عملتها بل قد تتجاوز ذلك بتخفيض قيمة اليوان إذا لزم الأمر، حتى تزداد صادراتها مما يكون له أثر إيجابي على اقتصادها، وهذا ما تحاول أمريكا تطبيقة حاليًّا لتحصل على نفس المكاسب.
ليس بالمستبعد  أن تقوم الصين بزحزحة الولايات المتحدة الأمريكية  اقتصاديا لتصبح الأول عالميًا في الاقتصاد، ويتم اعتماد اليوان بدل الدولار  في التجارة الدولية بشكل واسع، بل إن بعض الدول ستجعل احتياطاتها النقدية من اليوان، كما أن الشركات الدولية الكبرى ستتعامل باليوان بدلا من الدولار، مما يؤدي إلى زيادة الثقة في اليوان في المعاملات التجارية الدولية.
إن اليوان أصبح اليوم من ضمن العملات المعتمدة لدى صندوق النقد الدولي مثله في ذلك مثل الدولار الامريكي واليورو والين والجنيه الإسترليني.
لا بد من الإشارة إلى أن  الناتج المحلي الإجمالي اليوم  للصين  يبلغ 12 تريليون دولار أمريكي  تبعًا لبيانات البنك الدولي لعام2017م كما أنه ينمو بنسبة 6.5%.
فالفرق بين القيادة  التجديدية والقيادة الجامدة، هو أن الأول يسعى إلى التقدم ورخاء الإنسان وتطوره، بينما الثاني يرى في هذا التقدم كشفًا لأزمته وتخلفه.

تعليقات

الأكثر رواجا

الإستثمار في أثيوبيا (الاتجاه الصحيح للاستثمار )

تجارة المواشي في أثيوبيا

كيف تدير أمورك المالية؟

البطة السوداء

اثيوبيا التاريخ والحضارة

النجاح ..وأعداءه

استايل الغذاء العصري Teff (التيف)

الاستثمار الزراعي في إثيوبيا

المساجد في العاصمة أديس أبابا معالم وجمال

الشيخ الدكتور : “محمد رشاد ” من علماء أثيوبيا